فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَامَ بِنَاءُ الِاسْتِعْمَارِ الْإِفْرِنْجِيِّ فِي الْعَالَمِ، فَكُلُّ دَوْلَةٍ أُورُبِّيَّةٍ تَسْتَوْلِي عَلَى شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ تَعْنِي أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِإِفْسَادِ أَخْلَاقِهِ وَإِذْلَالِ نَفْسِهِ وَاسْتِنْزَافِ ثَرْوَتِهِ، وَكُلُّ مَا تَعْمَلُهُ فِي بِلَادِهِ مِنْ عَمَلٍ عُمْرَانِيٍّ كَتَعْبِيدِ الطُّرُقِ وَإِصْلَاحِ رَيِّ الْأَرْضِ فَلِأَجْلِ تَوْفِيرِ رِبْحِهَا مِنْهَا، وَتَمْكِينِهَا مِنْ سَوْقِ جُيُوشِهَا الَّتِي تَسْتَعْبِدُ بِهَا أَهْلَهَا، وَقَدْ قَرَأْنَا فِي هَذَا الْعَامِ مَقَالَاتٍ لِسَائِحَةٍ أَمِيرِكَانِيَّةٍ طَافَتْ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْتَعْمَرَاتِ الْأُورُبِّيَّةِ فِي الشَّرْقِ الْأَقْصَى، وَصَفَتْ إِذْلَالَ الْمُسْتَعْمِرِينَ فِيهَا لِلْأَهَالِي بِنَحْوِ جَرِّهِمْ لِعَرَبَاتِهِمْ، وَالدَّوْسِ عَلَى رِقَابِهِمْ وَظُهُورِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَنْفُسِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ بِإِبَاحَةِ شُرْبِ سُمُومِ الْأَفْيُونِ وَالْكُحُولِّ الْخُمُورِ الشَّدِيدَةِ السُّمِّ، وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ بِوَسَائِلَ نِظَامِيَّةٍ- فَذَكَرَتْ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَشْمَئِزُّ نُفُوسُ الرُّحَمَاءِ الْمُهَذَّبِينَ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْرِبُ مِنْهُمْ هَذَا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ فِي حَرْبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي بِلَادِهِمْ أُورُبَّةَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ؟ فَهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ قَتْلَى هَذِهِ الْحَرْبِ بَلَغَتْ عَشَرَةَ مَلَايِينَ شَابٍّ، وَالْمُشَوَّهِينَ الْمُعَطَّلِينَ مِنَ الْجِرَاحِ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ مِلْيُونًا، وَأَنَّ نَفَقَاتِ التَّدْمِيرِ قُدِّرَتْ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ مِلْيُونِ جُنَيْهٍ إِنْكِلِيزِيٍّ، وَهِيَ لَوْ أُنْفِقَتْ عَلَى إِصْلَاحِ كُلِّ مَمَالِكِ الْمَعْمُورَةِ لَكَفَتْ، وَلَا تَزَالُ الدُّوَلُ الظَّافِرَةُ الْمُسَلَّحَةُ تُرْهِقُ الَّذِينَ لَا سِلَاحَ بِأَيْدِيهِمْ وَتُحَاوِلُ الْإِجْهَازَ عَلَيْهِمْ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قِتَالِ الْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ الْحَرْبِ ضَرُورَةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا، وَيُفْتَرَضُ الْإِحْسَانُ وَالرَّحْمَةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِيهَا؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَرَّ بِامْرَأَتَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى قَتْلَاهُمَا «أَنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ حَتَّى مَرَرْتَ بِالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَاهُمَا؟» وَقَدْ شَهِدَ لَنَا الْمُؤَرِّخُونَ الْمُنْصِفُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ. اللهُمَّ ارْحَمْنَا وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاحِمِينَ، وَأَجِرْنَا مِنْ شَرِّ الْمُفْسِدِينَ الْقُسَاةِ الظَّالِمِينَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ {قَرِيبٌ} وَقَعَتْ خَبَرًا لِلرَّحْمَةِ، وَمِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُطَابِقًا لِلْمُبْتَدَإِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ بِأَنْ يُقَالَ هُنَا قَرِيبَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا التَّذْكِيرِ هُنَا وَتَوْجِيهِهِ بِضْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا مَا بَيْنَ لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ ذَوْقِ اللُّغَةِ وَبَعْضُهَا تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ.
منها أَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ هُنَا لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ فَلَا تُتْرَكُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ.
وَمِنْهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ نُكْتَةً جَامِعَةً بَيْنَ التَّوْجِيهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ- أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ هُنَا مُذَكَّرٌ. قِيلَ: هُوَ الْمَطَرُ. وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِحْسَانُ الْعَامُّ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ، إِذْ لَا مَعْنَى لِقُرْبِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ إِحْسَانَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا فِيهِ مِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ لَنَا مُسَلْسَلًا عَنْ شَيْخِنَا الْقَاوُقْجِيِّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [42: 17] و{لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [33: 63] وَقَدْ يُعَلِّلُهُ فِيهِمَا بِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَنْ يَقُولُ بِهَا وَهُمُ الْجُمْهُورُ.
وَمِنْهَا أَنَّ {قَرِيبٌ} فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى قَرِيبٌ بِرَحْمَتِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، كَمَا أَنَّهُ قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَإِجَابَتِهِ مِنَ الدَّاعِينَ. وَكَثِيرًا مَا يُعْطَى الْمُضَافُ صِفَةَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَضَمِيرَهُ، وَمَهْمَا يَقُلْ فَالِاسْتِعْمَالُ قَدْ وَرَدَ فِي أَفْصَحِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَأَعْلَاهُ، فَمَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِمَّا عَلَّلُوهُ بِهِ لِطَرْدِ قَوَاعِدِهِمْ قَالَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُعْجِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَقُلْ إِنَّ هَذَا مِنَ السَّمَاعِيِّ، وَمَا هُوَ بِبِدَعٍ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} قال: بعدما أصلحها الأنبياء وأصحابهم.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي بكر بن عياش. أنه سئل عن قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} فقال: إن الله بعث محمدًا إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي سنان في قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} قال: أحللت حلالي، وحرمت حرامي، وحددت حدودي، فلا تعتدوها.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس {وادعوه خوفًا وطمعًا} قال: خوفًا منه، وطمعًا لما عنده {إن رحمة الله قريب من المحسنين} يعني من المؤمنين، ومن لم يؤمن بالله فهو من المفسدين.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مطر الوراق قال: تنجزوا موعود الله بطاعة الله، فإنه قضى إن رحمته قريب من المحسنين. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا}.
هذانِ حالانِ، أي: ادْعُوهُ ذُوُو خَوْفٍ وطَمَعٍ، أو خَائِفِينَ طامعين، أو مَفْعُولان من أجلهما، أي: لأجْلِ الخوفِ والطَّمَعِ.
فإن قيل: قد قال في الآية الأولى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ}، ثم قال هاهنا: {وَادْعُوهُ}، وهذا يقتضي عَطْفَ الشَّيْءِ على نفسه، وهو باطل.
والجوابُ: أنَّ الَّذينَ فسروا قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} بأنَّ المرادَ به العِبادَة، قالوا: المُرَادُ بهذا الدُّعَاء الثَّانِي هو الدُّعَاءُ نفسه.
وأمّا الذين قالوا: المرادُ بقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} هو الدُّعَاءُ قالوا: المراد بهذا الدُّعَاءِ أن يكون الدُّعَاءُ المأمور به أوَّلًا مقرونًا بالتَّضَرُّع، والأخْفَاءِ، ثم بيَّن هاهنا أنَّ فائدةَ الدُّعَاءِ أحد هذين الأمرين.
فالأولى في بيان شَرْطِ صحَّةِ الدُّعاء.
والثانية في بيان فَائِدِةِ الدُّعَاءِ ومنفعته.
قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ} إنَّمَا لم يُؤنِّثْهَا وإن كانت خبرًا لمؤنث لوجوه:
منها أنَّهَا في معنى الغُفْرَانِ والعفو والإنعامِ، فحُمِلت عليه، قاله النَّضْرُ بْنُ شُمَيْل واختاره الزَّجَّاجُ.
قال سعيدُ بْنُ جُبَيْر: الرَّحْمَةُ هاهنا الثَّوَابُ فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8] ولم يقل: مِنْهَا؛ لأنَّهُ أراد الميراث والمال.
ومنها أنها صفة لموصوف مذكَّرٍ حذف، وبقيت صِفَتُهُ، والتَّقديرُ: إنَّ رحمة الله شيءٌ قريبٌ.
ومنها: أنها في معنى العفو أو المطر، أو الرحم.
ومنها: أنَّهَا على النَّسب كحائضِ ولابنٍ وتامرٍ، أي: ذات حيض.
ومنها: تشبيه فعيل بمعنى فاعل بِفَعيلٍ بمعنى مفعول، فيستوي فيه المُذَكَّر والمؤنَّث كجريح، كما حُمِلَ هذا عليه حيثُ قالوا: أسير وأسَرَاءُ، وقبيل وقُبَلاء حَملًا على رَحِيمٍ ورحماء، وعليهم وعُلَمَاء، وحكيم وحُكماء.
ومنها: أنَّه مصدر جاء على فعيل كالنَّعيق وهو صَوْت الضِّفْدَع، والضغيب وهو صَوْتُ الأرنب وإذا كان مَصْدرًا لَزِمَ الإفراد والتذكير.
ومنها: انَّهَا بمعنى مَفْعُولٍ أي مُقَرَّبة، قاله الكَرْمَانِيُّ، وليس بجيد؛ لأنَّ فعيلًا بمعنى مفعول لا يَنْقَاسُ، وعلى تقدير اقتياسه فإنَّمَا يكونُ من الثُّلاثِي المجرَّد، لا من المزيدِ فيه، ومُقَرَّبة من المزيد فيه.
ومنها: أنَّهَا من باب المُؤنَّث المجازي، فلذلك جاز التَّذكير كطلع الشَّمس.
قال بعضهم: وهو غَيْرُ جَيِّدٍ؛ لأنَّ ذلك حيث كان الفعل متقدَّمًا نحو: طلع الشَّمس، أمَّا إذا تأخَّر وجب التَّأنيثُ، إلا في ضرورة شِعْرٍ كقوله: [المتقارب]
-............... ** وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا

قال شهابُ الدِّين: وهذا يجيءُ على مذهب ابن كَيْسَان، فإنَّهُ لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشِّعر، بل يجيزه في السَّعَةِ.
وقال الفرَّاءُ: قريبةٌ وبعيدةٌ: إمَّا أن يُراد بها النَّسَبُ وعدمُه، فتؤنِّثها العرب ليس إلاَّ فيقولون: فلانٌ قريبة مني في النَّسَبِ، وبعيدةٌ مني أي في النَّسَبِ، أمَّا إذا أُريدَ القُرْب في المكان، فإنَّهُ يجوزُ الوجهان؛ لأنَّ قريبًا وبعيدًا قائم مقام المكان فتقولُ: فلانة قريبة وقريبٌ، وبعيدة وبعيد.
التَّقديرُ: هي في مكان قَريبٍ وبعيد؛ وأنشد: [الطويل]
عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ** فَتَدْنُوا ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ

فجَمَعَ بين اللُّغَتَيْنِ إلا أنَّ الزَّجَّاج ردّ على الفرَّاءِ قوله وقال: هذا خطأ؛ لأنَّ سبيل المذكر والمؤنث أنْ يجريا على أفعالهما.
قال شِهَابُ الدِّين: وقد كَثُرَ في شِعْرِ العرب مجيءُ هذه اللَّفظة مُذكَّرة، وهي صِفَةٌ لمُؤنَّثٍ.
قال امْرُؤ القَيْسِ: [الطويل]
لَهُ الوَيْلُ إنْ أمْسَى وَلاَ أمُّ سَالِمٍ ** قَرِيبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا

وفي القرآن: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63].
وقال أبو عبيدة: قَرِيبٌ في الآية ليس وَصْفًا لها، إنَّمَا هو ظَرْفٌ لها وموضع، فيجيءُ هكذا في المُفْرَد والمثنى والجمع، فإن أُرِيدَ بها الصِّفَةُ؛ وَجَبَ المُطابَقَةُ، ومثلُها لفظة بعيد أيضًا إلاّ أنَّ عليَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الأخفشَ خطَّأهُ قال: لأنَّهُ لو كانت ظَرْفًا لانتصب كقولك: إنَّ زَيْدًا قريبًا منك وهذا ليس بِخَطَأ، لأنَّهُ يجوز أن يتَّسعَ في الظَّرْفِ، فيعطى حكم الأسماء الصَّريحةِ فتقُولُ: زيد أمامك وعمرو خلفُك برفع أمام وخلف، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ نحو: أن قريبًا منك زيد أن قريبًا اسم إنّ، وزيدٌ خبرها، وذلك على الاتِّسَاع.
و{مِنَ المُحْسِنِينَ} متعلِّقٌ بـ {قَرِيبٍ}، ومعنى هذا القرب هو أنَّ الإنسان يَزْدَادُ في كلِّ لَحْظَةٍ قربًا من الآخرة وبعدًا من الدُّنْيَا، فإنَّ الدُّنْيَا كالماضي والآخرة كالمستقبل، والإنسانُ في كلِّ ساعة لحظة يَزْدَادُ بعدًا عن الماضي، وقربًا من المُسْتَقْبَل.
قال الشِّاعِرُ: [الطويل]
فَلاَ زَالَ ما تَهْوَاهُ أقْرَبَ مِنْ غَدٍ ** وَلاَ زَالَ مَا تَخْشَاهُ أبْعَدَ مِنْ أمْسِ

ولمَّا كانت الدُّنْيَا تزداد بعدًا في كلِّ سَاعَةٍ، والآخرة تزداد قُرْبًا في كلِّ سَاعَةٍ، وثبت أنَّ رحمة الله إنَّمَا تحصلُ بعد الموت، لا جرم قال الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
من الإفساد بعد الإصلاح إحمالُ النفس عن المجاهدات بخلع عذارها حتى تتبع هواها بعدما كَبَحْتَ لجامَها مدةً عن العَدْوِ في ميدان الخلاف، ومن ذلك إرسالُ القلب في أودية المنى بعد إمساكه على أوصاف الإرادة، ومن ذلك الرجوعُ إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق، ومن ذلك استشعارُ محبة المخلوق بعد تأكيد العقد معه بألا تحب سواه، ومن ذلك الجنوحُ إلى تتبع الرُّخص في طريق الطلب بعد حمل النَّفْس على ملازمة الأَوْلى والأشَق، ومن ذلك الانحطاطُ بِحَظٍّ إلى طلبِ مقامٍ منه أو إكرام، بعد القيام معه بترك كل نصيب.
وفي الجملة: الرجوعُ من الأعلى إلى الأدنى إفسادٌ في الأرض بعد الإصلاح.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ}.
يقال المحسنين عملًا والمحسنين أملًا، فالأول العابدون والثاني العاصون.
ويقال المحسن من كان حاضرًا بقلبه غير لاهٍ عن ربِّه ولا ناسيًا لِحقِّه.
ويقال المحسن القائم بما يلزم من الحقوق.
ويقال المحسن الذي لم يخرج (...) عن إحسانه بقدر الإمكان ولو بشطر كلمة. اهـ.